
كتبت رزان غازي، يشكل وقع كلمة “الوراثة السياسية” حالة من الانتباه والقلق والحرص عند السماع، حتى قبل البدء بالحديث عنه، أو حتى قبل الغوص في تفاصيل الكلام سواء أكان مواليًا أم معارضًا. وهذه ليست بظاهرة جديدة تطال العقول، بل جذورها ممتدة تاريخيًا و متأصلة في النفوس.
ينطوي مفهوم الوراثة السياسية على عملية نقل السلطة من الأب الأكبر الى أحد أبنائه طوعًا او إثر حالة وفاة. و يكون نقل هذه السلطة مقوى بالاستناد الى القوة المادية او القاعدة الشعبية التي يمتلكها المؤسس قبل التوريث.
وقد ساد هذا المفهوم كنوع من أنواع التوريث بشكل عام، و باعتبار انه حقٌ حصريٌ للعائلة المؤسسة ويفترض الا يستفيد منه الا من كان عضوًا فيها.
والدليل الأكبر اننا قلما نجد دولًا تعتمد نظامًا ديمقراطيًا قائمًا على انتخابات تحدد بموجبها من هو كفوء بما يكفي ليكون رئيسًا لهذه المجموعة او متخذاً القرار بإسمها.
وتختلف طريقة البلدان وتقبلها للتوريث السياسي وفق أنظمتها المتنوعة وتجربتها معه منذ العقود القديمة حتى اليوم مرورًا بالتغيرات الجمة على كافة الاصعدة. ولكن أين لبنان من هذه التغيرات وأثرها عليه ايجابًا او سلبًا؟
كان لبنان مسرحًا لاستعراض بطولات رجال السياسة، حيث تأثر جمهوره بين عامي 1975 و1990 بالنزاع والعنف السياسي على نطاق واسع، والذي انعكس على الأفراد والجماعات المحلية في جميع أنحاء البلاد، فبقي المجتمع اللبناني منقسماً سياسياً واجتماعياً، وساد الاستعداد لحرب قد تندلع في أية لحظة.
أدى التوريث السياسي الى زعزعة داخلية طالت حتى صفوف الأحزاب الكبرى مما أدى الى تنازع سلطوي بين الوريث وأعضاء الحزب الواحد، ما لعب دورًا أساسيًا في تفكك عدد من الأحزاب، ابرزها حزب النجادة على سبيل المثال.
إلا أنه بعد اجتياز مرحلة النزاعات العلنية، حان وقت المرور الى ما يصب في مصلحة العيش المشترك بأي طريقة تحد من أعداد الضحايا، حيث قيل على سبيل المثال: ”آن الأوان للبدء بالتشكيك في منطق النسيان والتسامح”. إن المراهقين والشباب يطرحون أسئلة حول ماضي وطنهم ومعاناة ذويهم”.
ولتحقيق الهدف المنشود اتخذت الجهات المعنية الخطوات التي تضمن لها عدم خسارة جولتها وضمان مقعدها لها ولورثائها، فلجأت الى عدة خطوات مثل: اتفاق الطائف، ولجان للتحقيق في مصير المخفيين قسراً، وعمليات للتعويض من خلال وزارة المهجّرين؛ وعمليات غير رسمية محلية، مثل العمل التوثيقي الذي قامت به منظمة الامم للتوثيق والأبحاث، وحركة السلام الدائم التي تشجع على عقيدة اللاعنف بين الشباب. وكان من بين الإجراءات الدولية :اللجنة الدولية للتحقيق في انتهاكات اسر-ائ-يل للقانون الدولي المبلغ عنها أثناء اجتياحها للبنان (لجنة ماكبرايد)، والمحكمة الخاصة للبنان (وهي محكمة مختلطة).
كان ذلك ذات تأثير إيجابي على لبنان والوضع اللبناني بشكل عام، وقد ظلت الحكومات اللبنانية المتعاقبة تتعهد بأنها ستعالج القضايا التي تشغل الرأي العام اللبناني، الا انها ما كانت لتفلح.
ونستشهد خير دليل ما قاله أحد سكان منطقة الحمراء في بيروت بعد استطلاع رأيه: ”نقاشاتنا هنا هي نفس النقاشات التي جرت قبل خمس سنوات. وفي رأيي، فإن هذا ليس ما نحن بحاجة لمناقشته، بل علينا أن نناقش كيف يجب أن تنتهي الحرب اللبنانية. نحن جميعاً نشعر بأننا ضحايا النزاع طائفي، الوضع الاقتصادي، وضحايا الوضع الأمني والمخاوف السياسية، وضحايا التعقيدات التربوية“
وكان من بين المشاعر السائدة بين المشاركين انعدام الثقة في القيادة السياسية الحالية، والبنى الحكومية القائمة من أجل الدفع بعمليات عدالة انتقالية غير منحازة ومُصممة لتحقيق الإصلاح.
إلا أن الورثاء السياسيين لعبوا ورقتهم الرابحة في المحافظة على السلم الأهلي.
فقد لجأ بعضهم الى توريث ذويهم متجهين الى التسلح بحجة لا يمكن مقاومتها او المناقشة فيها، قانعين مناصريهم بأن اعتماد من هم ذوي خبرة في السياسة من شأنه أن يصب في مصلحة عرش الحزب و توحيد صفوفه، دون احداث شرخ فيه، ولاستمرار نجاحه و توسعه.
ومِن أبرز مَن عمدوا الى هذا التوريث اتبعوا خطة المثل المشهور “سرّ الولد ابيه” وكانوا يرددون على وسائل الإعلام بأنهم علموا أولادهم لعبة السياسة وسيكونون على قدر المسؤولية طبعًا! على سبيل المثال: وليد جنبلاط وتسليم ادارة الحزب لنجله تيمور، سليمان فرنجية وتوريثه لنجله طوني، سعد الحريري الذي تسلم عن ابيه رفيق الحريري، وغيرهم كثر.
وقد تجاهلوا العقبة التي ورثوها للحياة السياسية وطعنهم لديموقراطيتها مما شكل أيضًا خللًا دستوريًا بقمع الترشح لمن هم من غير العائلة المعنية.
اما على كفة الميزان الأخرى، عزفت أحزاب عدة لحن الخلود، مألهة قائدها المبجّل ليتسلم بغير تسليم، كونه المخلص الأوحد، منهم رئيس حزب القوات اللبنانية الذي يترأس الحزب منذ العام 1986، وصاحب المعزوفة نفسها قائد حركة أمل منذ العام 1980 حتى اليوم ولا ننسى هنا أنه ليس فقط متربع على عرش قيادة حركة أمل بل على كرسي المجلس النيابي؛ كما نذكر كمن اتبع النهج نفسه ايضًا حسن نص-ر الله صاحب منصب الأمين العام لحز-ب الله في لبنان منذ سنة 1992.
كان كل هذا كفيلًا بشلّ الحركة السياسية في لبنان، وتخدير الحق بالتعاقب او انتخاب رؤساء جدد.
كل هذا يجبرنا على طرح السؤال الأوحد!
في ظل هذه التخبطات التي تتحكم بالوضع اللبناني، هل سنرسو على بر الديمقراطية التي ستوحد الصفوف و تضرب بالنزاعات السياسية عرض الحائط، لعلها تكون الحل؟



