
كَتَب محمّد غزّاوي:
تُعدّ الثّورة الفرنسيّة واحدة من أهمّ الأحداث في تاريخ العالم الحديث، فقد شكّلت نُقطة تحوّل هامّة في الحياة السّياسية والثّقافيّة والإقتصاديّة والفلسفيّة. وعلى الرغم من مرور أكثر من قرن على حدوثها، إلا أنّ تأثيرها لا يزال حاضراً في العديد من الدّول حول العالم، لا سيما في البلد المنشأ، إذ أن روحها ما زالت في قلوب المواطنين الفرنسيّين حتى الآن، خاصّةً بما يتعلّق بالحرّيات والمطالب الإجتماعيّة.
منذ عدّة سنوات شهدت العديد من الدّول إحتجاجات وتحرّكات إجتماعيّة تُطالب بالتّغيير والإصلاح، ومن أبرزها الثّورة اللّبنانية التي بدأت عام 2019، ولكنها تختلف بعدّة جوانب عن الثّورة الفرنسيّة التي تكلّلت بالنّجاح، على الرّغم من الحاجة المُشتركة للتّغيير والإصلاح ومُحاربة الفساد والنّهضة الإقتصاديّة.
إندلعت الثّورة الفرنسيّة في القرن الثّامن عشر، بسبب النّظام الإقطاعي المرير والجوع والحِرمان الذي عانى منه الفرنسيّين، كما أن روح هذه الثّورة ما زالت في قلبوهم حتى اليوم، إذ إحتجّوا على رفع سعر الوقود في العام 2018، ونزل الآلاف من المواطنين إلى الشارع في أكتوبر من العام 2022 للإحتجاج على إرتفاع تكاليف المعيشة وبعدها لإصلاح نظام التّقاعد في العام 2023. ومع بدء الثّورة اللّبنانية في عام 2019 تُعدّ هذه الحركة واحدة من الأمثلة البارزة على كيفيّة إستوحاء الثّورة الحديثة من الثّورة الفرنسيّة، حيث تركّز الحركة على المطالب الإجتماعيّة والإقتصاديّة والسياسيّة، والتي تتضمّن تحسين الظّروف المعيشيّة للمواطنين وتحسين الخدمات العامّة ومحاربة الفساد والطبقيّة والطائفية.
نأخُذ بعين الإعتبار بعض الإختلافات الرّئيسيّة بين الثّورة الفرنسيّة واللبنانيّة وبعض النّواقص التي إحتاجتها الأخيرة لضمان نجاحها. ففي السّياق الإجتماعي والتّاريخي، كانت الثّورة نتيجة لسنوات من الظّلم والإستبداد والتفاوت الإجتماعي. كما أن هدف الثّورة الفرنسيّة كان لإسقاط النّظام الملكي وإقامة جمهوريّة فرنسا، بينما الهدف الرئيسي للثورة اللبنانيّة هو إحداث تغيير في النّظام السّياسي وتحقيق العدالة والمساواة. بالإضافة أنّ الإتحاديّة بين الشعب وقادة الثّورة وحتّى دور الجيش الفرنسي كان محوراً في نجاح الثّورة، مختلفةً عن اللّبنانيين الذين كان يجب أن يتجنّبوا الإنقسامات الدّاخلية والطائفية، وعدم الإنجرار لمُراضاة الزّعماء ورغباتهم.
وهنا نستطيع القول، لو أنّ الثّورة اللبنانيّة إلتزمت ببعض التّنظيم والقيادة والحِراك المُشترك لكانت حديث العالم العربي بأسره، ولأصبحت رمز الإنتصار والحرّية بعد الثورة الفرنسيّة، ولألهمت العديد من الشّعوب التي تُعاني من نفس المُشكلة حول العالم، ولكن النّواقص الرّئيسية التي أهلكتها كانت بشكل رئيسي ومُركّز الطّائفيّة والمذهبيّة، فلماذا نرى فريق يترك عمله وبيته وينزل إلى ساحة المعركة للمطالبة بأبسط حقوقه، بينما فريقٍ آخر ينزل ليؤذيَ الفريق الأوّل ويتسلّط عليه وبالقوّة ينفّذ أوامر زعمائه؟ إن لم يكُن هناك وِحدة، لن يكون هناك وصول، وهذه الثّغرة الكبيرة التي كانت تحلّ بالثّورة، وتؤثّر بشكل مأساوي على أهدافهم وطموحاتهم بمستقبل مُزهر.
في النّهاية، بالنّظر إلى الثّورة الفرنسيّة واللبنانيّة، يمكننا أن نلاحظ العديد من الأوجه المُشتركة، وعلى الرّغم من أن الثّورات قد تكون مؤلمة، وتُسبّب الفوضى في المُجتمعات، إلا أنّها تُعدّ الطريقة الوحيدة لإحداث التّغيير الحقيقي. وبالنّسبة للحركة اللبنانيّة فإنّها تُشكّل تحدّياً للنُّخبة السياسيّة والإقتصاديّة التي سيطرت على الحُكم لعقود عديدة، وفي النّهاية، فإن جميع الثّورات والتحركات الإجتماعيّة تُشير إلى القوّة الشديدة التي يُمكن أن يُحقّقها المواطنون عندما يتّحدون من أجل قضيّة مُشتركة، وفي العالم بأسره، عندما تندلع ثورةً أو إعتراضاً أو غضباً شعبياً كبيراً، فيسقطُ رئيس الجّمهوريّة وتسقُط معه صلاحيّاته خلال ستّين يوماً، إلا في لُبنان، فيبقى متجمّداً متسلّطاً على كرسيّه بكامل صلاحيّاته ونفوذه غصباً عن إرادة شعبه.
فيا ليت الشّعب اللّبناني يتّحد، لمصلحته، لمُستقبل أولاده وأجياله، ليستردّ مكانته كسويسرا الشّرق الأوسط، كلُبنان التّاريخ والحضارة والتُّراث والإزدهار والنّمو والمعيشة، وليس كلُبنان الدّمار والحروب والعصابات…
فإنها بالفِعل كما قال الشّاعر التّونسي أبو القاسم الشّابي: “إذا الشّعب يوماً أراد الحياة، فلا بُدّ أن يستجيب القدر.”



