
رزان علوان؛ قانون رفع السرية المصرفية في لبنان: خطوة نحو الشفافية أم إجراء شكلي؟
منذ عقود، يعيش لبنان أزمات متراكمة ومختلفة على كافة الأصعدة، من صراعات سياسية وأمنية الى أزمات اجتماعية، وصولًا الى الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت بشكل كبير عام 2019، والتي كان لها التأثير الأكبر والأعمق على اللبنانيين.
وسط الفساد المستشري منذ عقود وهشاشة النظام المالي التي ظهرت مع ظهور الأزمة الى العلن، عاد قانون السرية المصرفية، الذي لعب لعقود دور أداة لحجب المعلومات وحاجزًا أمام المحاسبة، الى الواجهة. وبعد المطالب المتكررة، أُقرّ مؤخرًا تعديلٌ يتيح رفع هذه السرية عن بعض الفئات، فهل يشكل هذا التعديل بداية حقيقية للشفافية؟ أم انه إجراءٌ محدودٌ في نظام لا يزال يرفض المساءلة؟
قانون السرية المصرفية: الملاذ الآمن للأموال
تم إعتماد قانون السرية المصرفية في لبنان لأول مرة عام 1956، مع وجود المادة 579 من قانون العقوبات التي تعاقب على إفشاء الأسرار من قبل الأفراد الذين يعملون بها بحكم وظيفتهم.
وقد أُطلق على لبنان تسمية سويسرا الشرق من خلال مقاربته لسويسرا، كونه ملجأ للأموال الخارجية، حيث كان الهدف الأساسي منه لجذب رؤوس الأموال، جذب مدّخرات المغتربين وتأمين خصوصية وحماية لزبائن المصارف، ممّا عزز ثقة المودعين بالمصارف اللبنانية وحوّل لبنان في ستينيات القرن الماضي الى مركز مالي وتجاري إقليمي مهم.
السرية المصرفية: من حماية أموال المودعين إلى جدار يحمي الفاسدين
اعتبر الكثير أن نظام السرية المصرفية الذي كان ملاذًا آمنًا لزبائن المصارف، أصبح ملاذًا يُستخدم لحجب المعلومات ويشجع على القيام بعمليات تبييض الأموال، من خلال الإستعمال الكثيف للنقد الأجنبي، والتحويل من دون قيد أو شرط.
وفي عام 2000، أُدرج إسم لبنان على لائحة الدول غير المتعاونة في مجال مكافحة تبييض الأموال من قبل مجموعة العمل المالي.
وبين عامي 2008 و 2020، لم توافق هيئة التحقيق الخاصة، والتي تملك وحدها صلاحية رفع السرية، إلا على 35% من طلبات كشف الحسابات المشبوهة.
أمّا انتفاضة عام 2019، فقد كانت هي القشة التي قسمت ظهر البعير، حين فرضت المصارف قيودًا مشددة على سحب الودائع وتحويلها إلى الخارج. ومع ضغط الشارع والمجتمع الدولي، رضخت الدولة للقيام بتدقيق جنائي بحسابات المصرف.
هنا جاء دور السرية المصرفية، حيث استُخدمت ضد التدقيق بالحسابات ممًا أدى الى انسحاب شركة التدقيق عام 2020 لعدم توفر البيانات الكافية.
السرية المصرفية… من الإقرار الى التعديل
أقر المجلس النيابي، عام 2022، تعديلًا على قانون السرية المصرفية لأول مرة بعد 66 سنة. وعلى إثر هذا التعديل رُفعت السرية المصرفية عن الموظف العمومي، رؤساء الجمعيات والهيئات الإداريّة، رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف، ومدققو الحسابات، بالإضافة الى رؤساء مجالس الشركات التي تملك الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والإلكترونية.
هذا التعديل لم يتضمّن نصًّا صريحًا عن المفعول الرجعي، فأحدث جدلًا قانونيًاّ واسعًا.
ويفتح غياب النصّ الواضح البابَ أمام المصارف والعملاء للطعن في كشف المعلومات السابقة لتاريخ صدور القانون. وقد دفع هذا الغموض بقانون السرية المصرفية الى الواجهة من جديد خلال العهد الحالي، وتم تقديم مشروع قانون جديد في آذار 2025 يتضمّن مفعولًا رجعيًّا يمتدّ عشر سنوات إلى الوراء في محاولة لمعالجة هذا القصور.
وبذلك، أقرّ مجلس النواب اللبناني في جلسته بتاريخ 24 نيسان الحالي 2025، تعديلات على قانون السرية المصرفية، شملت المادة 7 (هـ) و(و) من قانون السرية المصرفية لعام 1956، والمادة 150 من قانون النقد والتسليف لعام 1963، المعدّلة بموجب القانون رقم 306 الصادر في 28 تشرين الأول 2022. والتعديل الأبرز هو منح القانون مفعولًا رجعيًا لعشر سنوات من تاريخ صدوره، بدلًا من حصره بتاريخ 28 تشرين الأول 2022، ما يسمح بمراجعة العمليات المالية منذ 2015، بما فيها الهندسات المالية المثيرة للجدل، وتوسيع الجهات المخوّلة بطلب رفع السرية المصرفية.
بدأ قانون السرية المصرفية كضمانة لخصوصية المودع، ثم تحوّل الى جدارٍ يخفي كمًّا من الفساد والأموال المنهوبة.
خطوة تعديله اليوم أساسية، ولكنها البداية في معركة الإصلاح الطويلة، وتبقى ناقصةً اذا لم تُطبَّق بشكل فعلي على أرض الواقع. فعدم إستقلالية القضاء، وإنعدام ثقة المواطنين بالمصارف، يطرحان علامات إستفهام حول ما اذا كان هذا التعديل أداة جدية للمحاسبة أم مجرد إجراء شكلي على الورق.



