مقالات

الجنوب السوري بين إرث الماضي وتعقيدات الحاضر

الجنوب السوري بين إرث الماضي وتعقيدات الحاضر: احتجاجات، توترات طائفية، وتنافس نفوذ إقليمي

الجنوب السوري بين إرث الماضي وتعقيدات الحاضر: احتجاجات، توترات طائفية، وتنافس نفوذ إقليمي

الجنوب السوري بين الاستقرار الغائب والتحديات الراهنة

يشكّل الجنوب السوري، وخاصة محافظة السويداء ومحيطها، جزءًا أساسيًا من النسيج الوطني السوري. من الثورة السورية الكبرى في عشرينيات القرن الماضي، إلى موقعه الحذر في أحداث العقد الأخير، بقي هذا الإقليم محافظًا على خصوصيته، لكنه اليوم يجد نفسه في مواجهة تحديات متصاعدة مع تزايد الصراعات المتكررة عبر الزمن. كما ان التنوع الديني فيه شكّل سيفًا ذو حدّين، فهو مصدرٌ لغنى اجتماعي وثقافي من جهة، وأرضية هشّة للتوترات من جهة أخرى. فهل ما نشهده اليوم هو مجرد امتداد للأزمات السورية المتراكمة، أم بداية تحوّل أعمق في دور الجنوب وموقعه ضمن الخريطة السورية؟

الجنوب السوري: العودة إلى الجذور

لا يمكن الحديث عن الصراعات المتكررة في الجنوب السوري دون العودة الى الجذور التاريخية. فمن جبل العرب اي السويداء حاليًا، انطلقت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش. السبب الرئيسي لاندلاع الثورة كان محاولة اغتيال المندوب السامي الفرنسي الجنرال غورو في 23 حزيران 1921 واتهام أدهم خنجر من جبل عامل ورفاقه بالاغتيال. لم تكن هذه الثورة حدثًا عابرًا، بل تحوّلت إلى محطة رئيسية في سياق مقاومة الاستعمار. وعبّرت عن رفض شعبي واسع للهيمنة الأجنبية، ليس فقط في الجنوب، بل امتدادًا إلى مناطق سورية أخرى. ورغم أن الثورة لم تؤدِّ إلى الاستقلال المباشر، بل ساهمت في ترسيخ وعي وطني واسع وأسّست لسردية وطنية بقيت حاضرة لعقود. ولكن بقي الجنوب، رغم رمزيته، خارج مراكز القرار السياسي.

الجنوب السوري: توترات متكررة وغياب الاستقرار

في العقد الأخير، لم ينجُ الجنوب السوري من تداعيات النزاع السوري العام. فبعد سنواتٍ من الحياد النسبي في بداية ثورة عام ٢٠١١، بدأت المنطقة تشهد تحولات تدريجية، مع تصاعد الرفض الشعبي للسلطة المركزية، وظهور تعبيرات محلية عن الغضب من الأوضاع المعيشية، وغياب الخدمات، والانهيار الاقتصادي.

خلال السنوات التالية، ظهرت مجموعات مسلحة محلية، بعضها رفع شعارات حماية المجتمع المحلي، وبعضها تورّط في حالات خطف وابتزاز وفوضى أمنية، وذلك وسط غياب واضح لمؤسسات الدولة أو عجزها عن ضبط الأوضاع. في الوقت نفسه، لم تبرز قوى بديلة موحّدة قادرة على فرض نظام واضح أو تقديم حلول مناسبة. شهدت السويداء بشكل خاص موجات من الاحتجاجات، عبّر السكان خلالها عن رغبتهم في الخروج من حالة التهميش السياسي.

 

الجنوب السوري اليوم: صراعٌ محليٌّ وتدخل خارجي

في منتصف تموز الماضي، اندلعت اشتباكات دامية في محافظة السويداء بين مقاتلين من المجتمع الدرزي وقبائل بدوية سنية، بعد حادثة سرقة وخطف طالت أحد المتسوقين الدروز على الطريق المؤدي إلى دمشق. تسبب هذا الحادث في سلسلة ردود متبادلة من الاعتقالات والخطف، وسرعان ما تصاعد إلى صراع مسلّح خلّف أكثر من 1000 قتيل، بينهم مدنيون وأمنيون ودروز وبدو. لاحقًا، دخلت على الخط “هيئة تحرير الشام”، والتي تُعرف حاليًا بالحكومة السورية المؤقتة. تأسست هذه المجموعة الإسلامية رسميًا عام 2017، من اندماج عدة فصائل مسلحة أبرزها “جبهة النصرة” بقيادة الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع. قام الشرع لاحقًا بحل هيئة تحرير الشام ودمج عناصرها في مؤسسات الدولة. وقد قاتلت هذه الفصائل إلى جانب المجموعات البدوية، ما أضفى بعدًا إضافيًا على طبيعة الصراع المحلي.

خلال هذه الصراعات، دخلت إسرائيل على خط المواجهة، وأعلنت قيامها بضرب أهداف تابعة للقوات الحكومية السورية حول السويداء وريف دمشق. وكانت الحجة المعتادة هي حماية أقلية الموحدين الدروز، وترسيخ منطقة منزوعة السلاح جنوب سوريا.

يرى البعض التدخل الاسرائيلي، في سياق الأحداث الجارية، محاولة معتادة لتوسيع النفوذ في الجنوب السوري، بينما يراه البعض الآخر دليلًا على هشاشة الوضع الأمني والإقليمي في المنطقة، وغياب أي مظلة سياسية تحمي المدنيين من التصعيد المتكرر.

 

يقف الجنوب السوري اليوم على مفترق دقيق، بين دوّامة الماضي الثقيلة واحتمالات مستقبلٍ لم تتّضح ملامحه بعد. فالمشهد في السويداء وعموم الجنوب ليس مجرد صراع نفوذ، بل هو انعكاسٌ لتراكمات طويلة من الإقصاء والقلق على المصير.

الحديث عن الجنوب لا ينفصل عن الحديث عن سوريا ككل، فاستقرار هذه المنطقة لا يمكن أن يُفرض بالسلاح، ولا أن يُشترى بالولاءات، بل يُبنى بالحوار، والعدالة، واعتراف الدولة بألم الناس وتطلّعاتهم.

وفي ظل مشاهد القتل المتكررة في خطاب طائفي ثأري، يبقى السؤال الأبرز: هل سندرك يومًا بأن الانسان هو انسان بغض النظر عن دينه؟ أم هل سيبقى القتل بإسم الدين ومَنح الحياة بإسم الطائفة سائدًا؟

زر الذهاب إلى الأعلى