تحقيقاتخاص

صراع الإنسان والطبيعة في عرسال

صراع الإنسان والطبيعة في عرسال: كيف يهدد التغير المناخي زراعة الكرز والمشمش؟

تحقيق ميداني يرصد تأثير التغير المناخي على الزراعة والاقتصاد المحلي من خلال شهادات مزارعين وخبراء وتجار

في أعالي جبال عرسال، يخوض المزارعون معركة غير متكافئة مع ظاهرة تتسلل نحو بساتينهم وحياتهم، وهي: التغير المناخي. الفصول لم تعد كما كانت عليه، والإنتاج لم يعد قادرًا على تلبية تطلعات الأهالي والأسواق، وتبدلت مواقيت الإزهار ونضوج الثمار.

يعمل هذا التحقيق على إبراز تأثير تغير المناخ على الزراعة في عرسال، ويرصد كيف تنعكس هذه التغيرات على البساتين والانتاج والاقتصاد المحلي.

 

الكرز هوية عرسال

شكلت عرسال بيئة مثالية لزراعة الكرز والمشمش، بسبب مناخها الجبلي وارتفاعها الذي يتجاوز 1400 متر فوق سطح البحر. حيث تقع بلدة عرسال في أقصى الشمال الشرقي لمحافظة بعلبك-الهرمل، على السفوح الشرقية لسلسلة جبال لبنان الشرقية.

وانتشرت بساتين الكرز والمشمش على مساحات واسعة في جرودها. وارتبطت هذه المحاصيل بهوية البلدة واقتصادها لعقود طويلة، حيث شكّلت الزراعة موردًا أساسيًا اقتصاديًا لأهلها حيث امتازت منتجاتها بالجودة العالية والمذاق المميز مما سمح لها بدخول الأسواق المحلية والعربية.

أحد أشجار الكرز في جرود عرسال

لكن في السنوات الأخيرة، بدأت هذه الزراعة تواجه تحديات غير مسبوقة وغير اعتيادية، أبرزها التغيرات المناخية التي أثّرت على توقيت الإزهار، كمية الإنتاج، وجودة الثمار. هذه التحولات لا تنفصل عن السياق العالمي، حيث يشهد العالم ارتفاعًا في درجات الحرارة، وتذبذبًا في معدلات الأمطار، وازديادًا في الظواهر المناخية المتطرفة.

 

تجربة المزارعين: مواسم مبكرة وتكاليف متزايدة

في عرسال، حيث كانت مواسم الكرز والمشمش تتبع نمطًا زراعيًا منتظمًا، بدأ هذا النمط يختل تدريجيًا. يؤكد المزارع صالح الحجيري أن التغير المناخي أدى إلى تبكير مواسم القطاف، مشيرًا إلى أن موسم 2025 بدأ قبل أسبوع تقريبًا من موسم 2024، والذي كان بدوره مبكرًا عن المعتاد. ويعزو ذلك إلى الجفاف المتزايد ومؤشرات التصحر التي باتت معالمه واضحة في السنوات الأخيرة.

ورغم هذه التغيرات، حافظت الثمار على جودتها العالية ونكهتها المميزة. إلا أن الحجيري يتحدث عن ظواهر جديدة لاحظها المزارعون هذا العام، أبرزها تعفن لب الثمار في بساتين المشمش الواقعة على ارتفاع يزيد عن 2000 متر، وهو ما يشير إلى تغيرات بيئية دقيقة تؤثر على صحة الثمار.

أما بالنسبة لكمية الإنتاج، فيوضح الحجيري أنها تختلف من سنة لأخرى تبعًا لعوامل مناخية مثل موجات الصقيع، درجات الحرارة، وكميات الأمطار. ويضيف أن بعض الظواهر المناخية، كالصقيع المتأخر والجفاف، قد تحمل نتائج إيجابية غير متوقعة، كما حدث هذا العام حين ساهم انخفاض الإنتاج بسبب الصقيع في تعزيز قدرة الأشجار على الصمود ومقاومة الجفاف خلال الصيف.

وأكد الحجيري أن المزارع اليوم يتحمل أعباء مالية متزايدة، إذ تتطلب كل شجرة عناية إضافية بسبب انتشار الأمراض والآفات الناتجة عن اضطراب المناخ. كما أن الحاجة إلى الري المبكر أو التكميلي خلال فصل الربيع أصبحت ضرورة، مما يزيد من التكاليف.

ويرى الحجيري أن الحل يكمن في التحول من الزراعة البعلية إلى الزراعة المروية، وهو ما يتطلب دعمًا حكوميًا واضحًا. ويشدد على أهمية وضع سياسات زراعية وبيئية مستدامة، وتوفير الأسمدة والمبيدات المناسبة من قبل وزارة الزراعة، إلى جانب اعتماد الشتول المتأقلمة مع المناخ شبه الصحراوي.

 

التأثير البيئي: مناخ متغيّر يهدد التوازن

على مدى العقدين الماضيين، شهدت عرسال تحولات مناخية كبيرة، كما يوضح المهندس الزراعي والخبير البيئي وجدي خاطر. فقد ارتفعت درجات الحرارة السنوية، وازدادت موجات الحرّ خلال فصل الصيف، في حين تراجعت معدلات الأمطار وتغيّر نمط توزّعها على مدار السنة. وقد أدت هذه التغيرات إلى فترات جفاف أطول، واضطراب في الطقس داخل الفصل الواحد، مما أثر بشكل مباشر على الزراعة في المنطقة.

يُعد الكرز والمشمش من أكثر المحاصيل تأثرًا بهذه التغيرات نظرًا لحساسيتها تجاه درجات الحرارة والبرودة. ومن أبرز الظواهر المناخية التي أثّرت على هذه الزراعات، بحسب خاطر:

  • الشتاء الدافء، مما يقلل من ساعات البرودة اللازمة للإزهار الجيد.
  • الصقيع الربيعي المتأخر، يؤدي إلى تلف الأزهار في بداية الموسم.
  • تراجع نسبة المتساقطات، مما يزيد الضغط على مصادر الري.

ورغم غياب محطات مناخية في عرسال، تشير بيانات وزارة الزراعة وبعض الجمعيات البيئية إلى أن متوسط درجات الحرارة السنوي ارتفع بين 1 و 1.5درجة مئوية خلال العشرين سنة الماضية، بينما انخفض معدل الأمطار السنوي بنسبة تتراوح بين 10 و%20. كما تؤكد الدراسات أن منطقة البقاع الشمالي، بما فيها عرسال، تشهد تغيرًا واضحًا في توقيت هطول الأمطار وأنماطه.

ويشير خاطر إلى أن التغير المناخي لا يؤثر فقط على كمية الإنتاج، بل يؤثر أيضًا على الإزهار والنضج. فارتفاع درجات الحرارة في الشتاء والربيع يؤدي إلى تبكير الإزهار، مما يجعل الأزهار أكثر عرضة للصقيع المفاجئ. كما أن موجات الحرّ المبكرة في الصيف تسرّع النضج، مما يؤدي أحيانًا إلى عدم توازن بين حجم الثمار ونكهتها، ويقلل من فترة تسويقها.

ولمواجهة هذه التحديات، يقترح خاطر مجموعة من الحلول الزراعية والبيئية:

  • إنتاج أصناف أكثر مقاومة للتقلبات المناخية.
  • اعتماد أنظمة حماية من الصقيع، مثل الأغطية الزراعية أو الري الضبابي.
  • تحسين إدارة التربة من خلال زيادة المادة العضوية وتغطيتها بالـ”كومبوست”، مما يساعد على الاحتفاظ بالرطوبة ويعزز قدرة التربة على مقاومة الجفاف.

 

الدور التنظيمي والتعاوني: الإرشاد والتكيف المناخي

في ظل تسارع التغير المناخي، لا يقتصر التأثير على كمية الإنتاج الزراعي فقط، بل يمتد ليطال صحة الأشجار والبساتين، كما يقول أحمد الفليطي، رئيس الجمعية التعاونية لإنتاج وتصريف الكرز والفواكه العرسالية .ويشير إلى أن المزارعين بدأوا يلاحظون تغيرات واضحة، أبرزها هطول الأمطار خارج مواسمها المعتادة، وانخفاض نسبة المتساقطات السنوية التي تحتاجها شجرة الكرز (600–700) ملم، إلى جانب الصقيع الربيعي المتأخر الذي يتزامن مع فترة الإزهار، مما يؤدي إلى تلف الزهور وتراجع الإنتاج.

ويضيف الفليطي أن الزراعة كانت المورد الأساسي لأهالي عرسال قبل أن يتجه كثير منهم إلى قطاعات أخرى كالوظائف والصناعة والتجارة. أما بالنسبة للمزارعين الذين يعتمدون كليًا على الزراعة، فقد لاحظ الفليطي انخفاض مبيعات الشتول والنصوب التي تؤمنها التعاونية، وهو ما اعتبره دليلًا واضحًا على تقلص النشاط الزراعي.

ولمواجهة هذه التحديات، تقدم التعاونية إرشادًا زراعيًا يرتكز على محورين: تعليم تقنيات التشحيل والتشذيب التي تساعد الأشجار على البقاء والإنتاج، وتوزيع أسمدة ومبيدات تساهم في استدامة الموارد. وأكد الفليطي أن التعاونية تخضع لقوانين المديرية العامة للتعاونيات التابعة لوزارة الزراعة، وتعمل على مشاريع متعددة بالتعاون مع جهات محلية ودولية. ومن أبرز هذه المشاريع تأسيس المشتل الزراعي بالتعاون مع جمعيةJOUZOUR Lebanon ، لإنتاج شتول متأقلمة مع المناخ المحلي. ثم تلقى المشتل دعمًا من جمعية يوحنا بولس الثاني ضمن مشروع أرض مما ساهم في تطوير خدماته ورفع إنتاجيته.

وفي إطار خطط التكيف مع التغير المناخي، بدأت التعاونية بإنتاج شتول من أصول محلية مقاومة للجفاف، مثل الإجاص البري والزعرور البري واللوز البري، إلى جانب استبدال الأصناف الحالية بأخرى أقل حاجة للمياه. كما تتجه نحو الزراعة الذكية، مثل زراعة النباتات الطبية والعطرية كـ”اللافندر”، واعتماد الري التكميلي في فصل الربيع لتعويض نقص الأمطار الشتوية دون تعويد الأشجار على الري الدائم.

ويختم الفليطي بالتأكيد على أن غياب التخطيط المستدام الذي يراعي استمرارية الموارد هو من أبرز التحديات التي تواجه القطاع، داعيًا إلى إطلاق حركة بيئية اجتماعية تحفّز المواطنين على الاهتمام بالبيئة، لتجنب كوارث مستقبلية.

 

البعد الاقتصادي: بين ندرة الإنتاج وفرص التصدير

رغم التحديات المناخية التي تواجه زراعة الكرز والمشمش في عرسال، يؤكد التاجر حسن عزالدين أن المحاصيل حافظت على جودتها العالية ونكهتها الفريدة، مما يجعلها مرغوبة في الأسواق المحلية والعالمية. إلا أن الكمية تبقى مرتبطة بشكل كبير بالعوامل المناخية، وتختلف بشكل كبير من عام إلى آخر.

ويشير عزالدين إلى التفاوت الكبير بين موسمي 2024 و2025، إذ بلغت كمية الإنتاج في 2024 نحو 1050 طنًا، بينما لم تتجاوز 30 طنًا في2025 ، نتيجة لانخفاض شديد في درجات الحرارة خلال فترة الإزهار، حيث وصلت إلى 15 درجة مئوية تحت الصفر، مما ألحق ضررًا كبيرًا بالمحصول.

هذا التفاوت ينعكس بشكل مباشر على أسعار السوق، التي يصفها عزالدين بأنها رهينة معادلة العرض والطلب، دون وجود مؤشرات ثابتة. ففي عام 2025، ساهمت ندرة الإنتاج في رفع الأسعار بشكل كبير، بينما في2024 ، ورغم انخفاض الأسعار، ساعدت الكميات الكبيرة في تحقيق أرباح مقبولة وفق مبدأ “ربح قليل مع كميات كبيرة”.

ويضيف عزالدين أن جزءًا كبيرًا من إنتاج عام 2024 تم تصديره إلى دول عربية مثل مصر والعراق، بينما تم تصريف كامل هذا العام في السوق المحلي اللبناني. وتطرق هنا إلى عقبتين أساسيتين أمام تطور القطاع: أولًا، غياب البرادات الزراعية التي تسمح بتخزين المحصول لفترات أطول، وثانيًا، ضعف التصدير إلى دول الخليج رغم أن جودة المحاصيل تؤهلها للمنافسة في الأسواق العالمية.

وفي تقييمه لمستقبل الزراعة في عرسال، يرى عزالدين أنها كانت ولا تزال موردًا اقتصاديًا أساسيًا لأهالي المنطقة، رغم التراجع الملحوظ في السنوات الأخيرة. ويشدد على ضرورة تبني حلول جذرية ومستدامة من قبل الجهات المعنية، لإعادة إنعاش القطاع الزراعي ودفعه نحو التطور، خاصة في ظل التحديات المناخية والاقتصادية المتزايدة.

 

زراعة الكرز والمشمش بين تحديات المناخ وفرص التكيف

رسمت شهادات الخبير البيئي، المزارع، رئيس التعاونية، والتاجر صورة شبه متكاملة لتأثير التغير المناخي على زراعة الكرز والمشمش في عرسال. حيث أن التغير المناخي يعّرض هذه الزراعة الحيوية لضغوط متزايدة تهدد استمراريتها وجودتها.

هذه الضغوط وجميع المؤشرات التي أتى التحقيق على ذكرها تنذر بأزمة تتطلب تدخلًا فوريًا وحلولًا مستدامة. فالمزارع يواجه أعباءً مادية متزايدة، والتاجر يتعامل مع سوق غير مستقر، والتعاونية تحاول جاهدةً التكيف، بينما البيئة نفسها ترسل إشارات واضحة على التصحر القادم.

لكن الفرص دائمًا حاضرة بالرغم من جميع التحديات. من الزراعة المروية إلى الزراعات الذكية، ومن تحسين إدارة التربة إلى إنتاج شتول متأقلمة، هناك حلول قابلة للتطبيق إذا ما توافرت الإرادة والإدارة والدعم.

إن مستقبل الزراعة في عرسال لا يعتمد فقط على جهود المزارعين، بل يتطلب رؤية شاملة تأخذ بعين الاعتبار خصوصية المناخ المحلي، وتدمج بين السياسات البيئية والزراعية والاقتصادية. فالمناخ يتغير، لكن قدرة المجتمعات على التكيف تبقى أقوى.

الكرز والمشمش في عرسال ليست مجرد محاصيل موسمية بالنسبة للعراسلة؛ إنهما انعكاس جلي لعلاقة الإنسان المتجذرة بأرضه، وصورة واضحة لصراعه المستمر مع التغير، ودليل دامغ لسعيه الدؤوب للتكيف.

 

ملاحظة: هذا التقرير معد كمشروع تخرج من دبلوم صحافة المناخ الذي تنظمه مدرسة المناخ بالتعاون مع غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وشبكة الصحفيين الدوليين.

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى