خاصمقالات

خمس سنوات على الجريمة

تفجير مرفأ بيروت: خمس سنوات على الجريمة، والعدالة لا تزال مفقودة

تفجير مرفأ بيروت: خمس سنوات على الجريمة، والعدالة لا تزال مفقودة

خمس سنوات مرّت، والمشهد يعيد نفسه: وجوه أرهقها الانتظار، وقلوب لم تعرف السكون، وعاصمة لا تزال ترتجف تحت رماد الجريمة. في كل عام، تحلّ ذكرى تفجير مرفأ بيروت كأنها لم تغب يومًا. إذ لم تُخفّف السنوات من وقعها، بل زادت من حضورها ثِقَلًا، ومن وجعها إلحاحًا. سؤال واحد لا يزال معلّقًا دون جواب: من فجّر بيروت؟ من قتل شعبها؟ ومن سيُحاسَب؟

كان ذلك يوم الثلاثاء، في الرابع من آب 2020، تمام السادسة وسبع دقائق مساءً. لحظة واحدة فقط حوّلت بيروت إلى ساحة خراب. تفجير هائل، أقرب إلى الانفجار النووي، دوّى في قلب العاصمة. سقطت الأبنية، تدفّقت دماء الأبرياء إلى الشوارع، وتطايرت أشلاء أكثر من 220 شهيدًا. آلاف الجرحى، وعشرات الآلاف من المنازل المدمّرة، ومرفأ مُحيت نصف معالمه، فيما فُقدت روح المدينة في لحظة واحدة.

لكن التفجير لم يكن حدثًا عرضيًّا ولا كارثة طبيعية. ما حصل كان تتويجًا لمسار طويل من الإهمال، والفساد، والتقصير المتعمّد، والتغطية السياسية المتواصلة. أكثر من 2750 طنًا من نيترات الأمونيوم خُزِّنت في المرفأ منذ عام 2013، بلا رقابة ولا محاسبة. تقارير رسمية، تحذيرات أمنية، ومراسلات قانونية، كلها قوبلت بالإهمال، وكأن الأرواح لا قيمة لها في حسابات السلطة.

لم يكن تفجير المرفأ مجرّد كارثة دمّرت نصف العاصمة، بل لحظة مفصلية أظهرت النظام اللبناني بكل عوراته: دولة عاجزة، صامتة، متواطئة، محكومة بتوازنات طائفية ومصالح زبائنية، انقسمت حتى في لحظة الجنازة الجماعية. سلطة فاسدة ارتضت أن تكون شاهد زور على أكبر جريمة في تاريخ لبنان الحديث.

واليوم، بعد خمس سنوات، لا تزال العدالة مفقودة. التحقيق القضائي الذي أُطلق لكشف الحقيقة سُرعان ما تحوّل إلى ساحة صراع سياسي، طغت فيها المحسوبيات على القانون. قضاة عُزلوا، وتحقيقات جُمِّدت، وتهديدات طالت ذوي الضحايا، فيما تُبذل جهود ممنهجة لطمس الملف ومحوِه من الذاكرة الوطنية.

ورغم الجمود الطويل، شهد هذا العام تطورات مفصلية. ففي مطلع عام 2025، أعاد القاضي طارق بيطار تفعيل التحقيق بعد تجميد دام أكثر من عام، متحديًا الضغوط السياسية ومحاولات العرقلة. استُدعيت شخصيات أمنية رفيعة، أبرزها اللواء عباس إبراهيم واللواء طوني صليبا، للمرة الأولى منذ التفجير، وقدّموا إفادات أمام القضاء في خطوة وُصفت بالمفصلية. كما شملت الاستدعاءات وزراء وقضاة ومسؤولين إداريين، ضمن مسار متسارع لجمع الأدلة قبل الذكرى الخامسة.

ترافقت هذه التحركات مع مؤشرات على تعاون دولي محتمل، ورفع الغطاء عن بعض العوائق القضائية التي كانت تمنع الوصول إلى حقائق أساسية. لكن، رغم هذه المبادرات، لم تصدر حتى الآن أي لائحة اتهام نهائية، ولا تزال المحاسبة غائبة فعليًا عن المشهد.

الحقيقة غابت، أو أُخفيت. لكن الثابت الوحيد: من ماتوا في ذلك اليوم، قُتلوا عمدًا، ضحايا دولة مهترئة.

في المقابل، خفت صوت أهالي الضحايا مع مرور الوقت. البعض، حين نال الأضواء، لم يُكمل ما بدأه، وتحول عن مسار المواجهة إلى التفاوض، ومن مطلب العدالة إلى مساحة الشهرة. تحوّل الغضب إلى ظهور إعلامي، والمأساة إلى أداة ضغط متقطّع، فيما بقيت الذاكرة معلّقة بلا صوت موحّد. وحدها قلّة قليلة من العائلات واصلت المواجهة، بينما تراجع المشهد العام أمام تسويات خفية وتعبٍ جمعي.

ذكرى الرابع من آب ليست لحظة حداد، بل معركة مفتوحة بين شعب حيّ ودولة ميتة. بين ضحايا لم يجدوا من يُنصفهم، ومنظومة سياسية تُمعن في الهروب من المحاسبة. إنه التاريخ الذي سقط فيه القناع عن وجه السلطة، وانهارت معه ثقة اللبنانيين بها.

قد تمرّ السنوات، وقد تغيب الصور وتبهت الأصوات، لكن جريمة ٤ آب ستبقى حاضرة في الذاكرة الجماعية. ليست حادثًا عرضيًا، بل جريمة موثّقة بالحقائق والأدلّة. مسؤولون كانوا يعلمون، صمتوا، وتعمّدوا التجاهل. ومن ماتوا، قُتلوا بأيدٍ داخلية، لا بفعل قضاء وقدر.

بيروت لن تُشفى إلّا بالحقيقة الكاملة والمحاسبة التامة. العدالة ليست شعارًا نُردّده في كل ذكرى، بل مقاومة مستمرّة في وجه منظومة لا تؤمن سوى ببقائها.

٤ آب ليس ماضٍ يُطوى، بل حاضرٌ يُوجِع، ومستقبل يُختَبَر فيه ضمير هذا الوطن، وضمير العالم أجمع.

فمن دون عدالة، ستبقى بيروت مدينة مكسورة، ووطنًا بلا حصانة، وشعبًا معلّقًا بين ذاكرة دامية ومأساة لا تنتهي.

زر الذهاب إلى الأعلى